Saturday, January 21, 2012

بــكــائــيــة

نقلت هذا المقال نصا ً من جريدة أخبار الأدب لأنه أعجبني كثيرا... ـ

شاعر عن شاعر

بكائية (صلاح عبد الصبور)

أبكي جوهرة

سيدة الجوهـر

الجوهرة الفرد !

كانت تلمع

في مقبض سيف سحري مغمد

علق رصدا

في باب الشرق الموصد !

من يدم النظر إليها

يرتد إليه النظر المحسور

ويهوي في قاع النوم المسحور

حتى أجل الآجال !

قد يمسخ حجرا

أو في موضعه يجمد !

جاء الزمن الوغد

صدئ الغمد

وتشقق جلد المقبض ..

ثم تخدد !

سقطت جوهرتي

بين حذاء الجندي الأبيض

وحذاء الجندي الأسود !

علقت طينا من أحذية الجند

فقدت رونقها

فقد ما طلسم فيها

من سحر مفرد !

... ... ... ... ...

آه يا وطني !

***

أبكي برجا عريان .. الصدر المفتوح..

الشمس ..

الوشم الذهبي على المتن الصخري ..

والقمر على مفرقه العالي:

ديك الريح !

إيه.. يا زمن التبريح !

البرج تهاوى

في مستنقعك الملحي !

ساخت في الأوشال الدبقة

قائمتا البرج المجروح !

... ... ... ... ...

آه يا وطني !

***

أبكي قصرا أسطوريا من جلوة ألوان

تغزل – حين تمد إليها الشمس المعطاء

حاجتها من خيط النور الوضاء –

جلوة ألوان أخرى !

تتولد منها ألوان

تمسح زرقتها أو خضرتها

أو دكنتها

في صدر مرايا

سائلة في وجه مرايا !

يتجدد إيقاع الألوان

على إيقاع الموسيقى

الموسيقى تتولد من طرقات الأنسام

على بلور الشرفات

الشرفات .. الزهريات !

يتبعثر فيها الورد النابت

من طين الأرض المسكية

عطرا مختلطا منسجما كالايقاع !

جاء الزمن المنحط

فحط على القصر الأجلاف !

جعلوه مخزن منهوبات .. مبغى

ماخوره !

فرت من أبهاء القصر الأسطورة !

... ... ... ... ...

آه يا وطني !

***

أبكي مهرا وثابا

مشدودا في درب المعراج إلى الله !

مهرا بجناحين :

الريش من الفضة

والوشى: اللؤلؤ والياقوت!

مهرا يصهل ويحمحم

يتنظر فارسه المعلم !

إيه يا زمن الأنذال !

جاء الدجال ..

الدجالان ..

العشرة دجالين ..

المائة .. المائتان

نزعوا الريش ..

وسلبوا ياقوت الوشى

واقترعوا

ثم اقتسموا جوهر عينيه اللؤلؤتين !

... ... ... ... ...

آه يا وطني !

"لا نحتاج أمام هذه القصيدة الفريدة التي أبدعها الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور قبل أربعين عاما أو يزيد، إلا إلى أن نردد مقطعها الأخير مرة واثنتين وثلاثا، لنرى كيف أننا نغرق في مستنقع الدجل الآسن لا نزال: (الدجال .. الدجالان .. العشرة دجالين .. المائة المائتان)!

إن الدجل الذي جسده صلاح عبد الصبور بعيد النكسة، لا يختلف عن دجل هذه الأيام بعيد الثورة، المسرح هو نفسه وسحنة الأبطال هي ذات السحنة ! وأحذية الجند لم تتغير ! أما الجوهرة الفرد، سيدة الجوهر؛ التي بدت وقت كتابة القصيدة على أنها مصر، مصر الجوهرة الفرد بأصالة شعبها وفرادة نيلها وعراقة تاريخها وحضارتها التي علمت الأمم الأخرى وألهمتها؛ فإنها ستبدو لنا اليوم على أنها الثورة: ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ، التي ألهمت العالم أيضا، فأصبح ميدان التحرير أستاذا للميادين كافة، في شرق العالم وغربه، في شماله وجنوبه !

بكى صلاح عبد الصبور لأن سيدة الجوهر ، التي هي مصر، قد سقطت تحت أحذية الجند، أحذية بيض وأحذية سود، لنقل أنها أحذية العدو خارج الحدود، وأحذية الطغاة من العسكر داخلها ! أما اليوم فلنبك ِ نحن سيدة الجوهر التي هي الثورة ! التي تداس تحت أحذية بيض وسود، هي أحذية الأمن المركزي والشرطة العسكرية، بكى صلاح عبد الصبور لأن الزمن المنحط رمى مصر بالأجلاف من الحكام العسكر، الذين اغتالوا حرية المصريين منذ 1952 ، وخربوا قصور مصر ونهبوا كنوزها، فتصحرت مصر على أيديهم، ليضيع رونق الحضارة ويتبدد سحر الألوان ويذوي بريق الجوهرة الفرد بعد أن تراكم عليها الصدأ ! أما اليوم فلنبك ِ نحن على جوهرتنا الغالية: الثورة، ونحن نراها كل يوم تتعرض لتصفية معنوية ومادية، تتعرض للغارة بعد الغارة وللمؤامرة بعد المؤامرة، تكالب عليها المتأسلمون فسرقوا ثمارها بلبل، وتكأكأ عليها الجند فاغتالوا شبابها وفقأو عيونهم وأودعوهم السجون، وشوهوا صورة من بقي منهم، حتى لا يحل عيد ميلادها الأول إلا وهي أثر بعد عين ! بكى صلاح عبد الصبور، لأن الأسطورة فرت من القصر بعد أن قوضه العسكر ! الأسطورة بكل ما توحي به من حلم جميل وأمل مشرق وبشارة مبهحة، ليس لها أن تعيش بين الخرائب والأطلال. أما اليوم، فلنبك ِ نحن على ميدان التحرير الذي فرت منه الأسطورة ! نعم لقد فرت منذ أن بطشت الشرطة العسكرية بخيرة شبابنا وأراقت دماءهم على الأرصفة رميا بالرصاص أو دهسا تحت عجلات السيارات ! فرت الأسطورة منذ أن أستبيحت أجساد الفتيات في الشوارع، أو في المصحات العسكرية لإجراء كشوف العذرية !

بكى صلاح عبد الصبور، غير أننا لن نبكي؛ لأن الأسطورة التي فرت لابد لها أن تعود إلى الميدان، الشباب الثائر الذي كتب بدمائه الزكية تلك الأسطورة الكبرى، قادر على أن يستعيدها من جديد في عيد ميلادها الأول، وهذه المرة سوف يتشبث بها، ولن تفلت من بين يديه ثانية !

***

الدجال .. الدجالان .. العشرة دجالين .. المائة المائتان ... في هذه اللحظة بالذات، وأنا أكرر معكم هذا المقطع؛ ذكرت مقطعا لي كتبته عام 1979 في قصيدة (نيل السبعينات يتحدث عن نفسه)، يقول المقطع: نيل .. نيلان .. ثلاثة أنيال .. خمسة عشر .. ثلاثون ...وليرث الوارثون ! ؛ ذكرت مقطعي هذا فقلت في خجل: يا لي من لص !

حسن طلب
جريدة أخبار الأدب - العدد 964 - الأحد 15 يناير

No comments:

Post a Comment